لقاء الشيخين .. محنض بابه والقرضاوي

ثلاثاء, 27/09/2022 - 08:54

 

قد لا يحتاج قارئ هذه السطور للتعريف بالشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، فهو معروف لدى الخاصة إذ هو أحد أبرز الناشطين في الحقل السياسي الإسلامي المعاصر.

 ويرأس اتحاد العلماء المسلمين وألف أكثر من مائة كتاب.

كما أن العامة باتت تعرفه منذ تحول إلى أحد نجوم الجزيرة، فبرنامجه "الشريعة والحياة" تربع أعواما متتالية على رأس أكثر برامج القناة مشاهدة وهو يترجم إلى عدة لغات ويعاد بثه على قنوات آسيوية كثيرة.

ولا شك أن القرضاوي التقى الكثير من رجال العلم والفكر والسياسة والإعلام في مختلف أنحاء العالم ومن شتى المشارب. لكنني لا إخاله التقى أحدا يشبه الشيخ محنض بابه ولد امين.

فالرجل طراز خاص بل هو أمة وحده: فنمطه في الحياة فريد وغريب وتميزه الروحي ينادي علي نفسه. ومع أنه نشأ في وسط أسري متميز في علمه وصلاحه فإن الروايات الشفوية المتداولة في محيطه تفيد بأن أمارات الفطنة والذكاء وازدراء الدنيا والعزوف عنها بدت عليه في صباه ومراهقته.

وقد هيأه ذلك لخوض تجربته الذاتية المثيرة في مجال التصوف. فعندما بلغ الرابعة والعشرين من عمره اعتزل الناس وانقطع لفترة خمس سنوات في خلوة تامة هائما في فلوات "إيكيدي" محاولا تأمل الحقيقة وتمثلها وترويض النفس وتطويعها.

ولم يكن يرد من أخباره في تلك الفترة سوى شذرات غريبة، فقد يلمح آخر من يصدر من إحدى الآبار يوما شبحا يشبهه وهو يترصد خلاء البئر من الرواد أو يذكر راع مرة أن خيال ذلك الرجل الصالح تراءى له يحتمي بظل شجيرة في قائظة النهار.

وقد عاد محنض بابه من تلك الرحلة وقد طلق الدنيا طلقة بائنة فكأنه فيها غريب أو عابر سبيل. فهو يعيش بين الناس حاضرا كالغائب لفرط ما يطبع سلوكه من مراقبة صارمة للنفس وتوجه خالص لله وزهد صادق في الفانية. واليوم لا يوقد في بيت محنض بابه قدر فقوته اليومي لا يتجاوز غالبا جرعات معدودات من اللبن.

أما لباسه فدراعة رقيقة من أبسط أنواع "الشكة" لا يرتدي معها سوى إزار خفيف وعمامة قصيرة ونعل من أرخص أصناف "الرية". وبينما يرغب كثير من تلامذته ومحبيه في أن يوفروا له مسكنا مناسبا مزودا ببعض خدمات الراحة فهو يقيم بضاحية نواكشوط في بيت من غرفة واحدة لا ماء جاريا فيها ولا كهرباء.

وعند ما زار القرضاوي في مقر إقامته بالطابق التاسع من فندق الخيمة بنواكشوط كانت أول مرة يدخل فيها فندقا أو يستخدم مصعدا. وعلى من يريد أن يطلع على طريقة الرجل في التعامل مع الدنيا وأهلها أن يلقي نظرة فاحصة على نظمه الفريد "سلم الضعاف المرتقين إلى درجات التائبين المتقين" الذي بسط فيه فهمه الخاص لمقام "الإحسان".

أما من الناحية العلمية فمحنض بابه سليل علماء أفذاذ: فأجداده حامد ومحمذن ومحنض بابه ولد اعبيد رحمهم الله كلهم علماء أتقياء طبقت شهرتهم آفاق البلاد. لكن أمرين على الأقل يميزان محنض بابه ولد امين عن غيره من علماء عصره. أحدهما تحرره من رقبة التقليد وممارسته للاجتهاد ممارسة الفاهم لمقاصد الشريعة والموقن بأن تحقق تلك المقاصد يختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال.

 فهو لا يتقيد بمذهب فقهي معين ولا طريقة عقدية محددة ولا منهج فكري معروف. وقد تحرر تحررا كاملا من إسار الأعراف والعادات التي تحكم حياة المجتمع من حوله فكل تقليد بالنسبة له مشكوك فيه حتى يعرض على الشرع ويوافقه.

 وهو يرى أن أكبر مشكلة يعاني منها الناس اليوم هي أنهم طمروا عقولهم تحت ركام من العادات والمفاهيم والأفكار المسبقة الخاطئة حجبت عنهم الحقيقة وأعمت بصائرهم فكأن في آذانهم وقرا وعلى أعينهم غشاوة وعلى قلوبهم أكنة.

 أما ميزته العلمية الثانية فهي الطابع الرباني لخطابه الديني وفتاواه وأقضيته. فمؤلفاته تظهر الإسلام على حقيقته وحدة عضوية تمتزج فيها العقيدة بالأحكام امتزاجا كاملا. ويكفي للتأكد من ذلك مطالعة مؤلفه "المباحث الفقهية".

ومن أبرز ما يميز الرجل حسن الخلق. فأثناء زياراته لنواكشوط مثلا يستقبل يوميا عشرات الأشخاص من مختلف أنحاء موريتانيا ومن مستويات ثقافية واجتماعية متباينة. فمن زواره من يستفتي في حكم شرعي أو نازلة فقهية ومنهم من يطلب استشارة طبية ومنهم من يلتمس بركة أو دعاء صالحا.

 وهو يحتفي بكل زائر ويكرمه دون أن تكون في مجاملته ذرة من تصنع أو كذب ودون أن يبدي تبرما أو تضايقا رغم ضعفه البدني وثقل بعض الزوار حينا وعدم مواتاة الوقت أحيانا. ويقدم محنض بابه الخدمات لزواه مجانا ودون أي مقابل ولا غرابة في ذلك إذ زهده بالمال متأت من زهده في كل ما قد يجلبه المال من متع الفانية.

 ويجسد جانبا من ذلك قصة رجل الأعمال الإسباني الذي زار نواذيبو وحدثه بعضهم عن خوارق محنض بابه فسافر إليه في "الدوشلية" ليعرض عليه حالة أخت له تركها في إسبانيا مصابة بسرطان بلغ مرحلة اليأس من الشفاء، فأمره محنض بابه بمناولة أخته ماء زمزم مخلوطا بتراب من مقبرة "الميمون".

وبعد ذلك بفترة عاد الإسباني إلى "الدوشلية" مبهورا ليخبر محنض بابه بأن أخته شفيت تماما وأنه جاء مقدما شكر الأسرة وعرفانها بالجميل وعارضا مستحقات الاستشارة والدواء. لكن محنض قال له إن "ملح يده" هو فقط في أن يسلم... وقد سئل عن سر اختياره لمقبرة "الميمون" فأجاب بأن بركة أهل العاقل مضاعفة لشدة حسن ظنهم بالمسلمين.

ولعل أبرز ما يلخص "ظاهرة محنض بابه" ما وصفه به أحد علماء "إيكيدي" عندما قال إن "صفته لا توجد إلا في الكتب". ويرحم الله الرجل الصالح آكل ولد محمدن ولد الشيخ أحمد ولد الفاللي الذي قال مرة وهو يرى محنض بابه وقد قدم إلى "انيفرار" يسأل علماء الحي عن أمور ومسائل هو أدرى بها: "إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم."

ولست أدري لم يروق لي أحيانا مقارنة حالة الموريتانيين مع محنض بابه بحالة العرب مع النفط. فبعض الدول فيها نفط لكنها تجهل ذلك لأنها قصرت في التنقيب عنه. وبعضها اكتشفت أن لديها نفطا لكن عجزت عن استخراجه. وبعضها وجدت نفطا واستخرجته لكن استفادتها منه محدودة جدا للأسف. وعلى أية حال فإن من القلائل الذين استفادوا ولو قليلا من الشيخ محنض بابه "تلامذته" وهم مجموعة من الشباب المميزين جاؤوا من آفاق مختلفة لينهلوا من علمه وأخلاقه الربانية. ومن بينهم منداه ولد ابين ولد بابانا الذي يلقبه محنض بابه ب"محب السبتي" وهو الذي صحبه في لقائه بالقرضاوي.

وأعتقد أن هذا اللقاء ما كان ليتم لو أن محنض بابه قنع كجل معاصريه بالثقافة التقليدية ولم يحرص على اقتناء وقراءة ما يصدر من كتب إسلامية حديثة بما فيها كتب القرضاوي. وقد أعرض محنض بابه عن تناول ما قدمه له القرضاوي من حلوى وشاي بعد تبادلهما التحية مفضلا استفتاح اللقاء بأبيات من قصيدة للقرضاوي أولها:

أنا إن نسيت فلست أنسى

خطبة في ساحة الحربي ذات شجون

وقد تهللت أسارير القرضاوي وهو يستمع إلى المقطع القصير من قصيدته الطويلة "ملحمة الابتلاء" التي تبلغ 294 بيتا ومطلعها:

 ثار القريض بخاطري فدعوني

أفضي لكم بفجائعي وشجوني

ويحكي القرضاوي في هذه القصيدة قصة اعتقاله لمدة نحو عشرين شهرا في السجن الحربي بالقاهرة. ولست أدري أي مشاعر أثارتها الأبيات في نفس القرضاوي. كل ما أدريه أن الجو العاطفي الذي استدعته القصيدة يفترض أن يكون قد كسر الحاجز النفسي بين الرجلين. وقد سأله محنض بابه عن سنه عندما قال القصيدة فأجابه: تسعة وعشرون عاما، كما سأله عن سنه عندما هاجر إلى قطر فذكر له أنه كان في الخامسة والثلاثين من عمره.

بعد ذلك سأل محنض بابه القرضاوي عن آل دراز وهي أسرة علم مصرية كبيرة. فقال القرضاوي إنه لم يعايش الشيخ عبد الله دراز لكنه تتلمذ على ابنه الشيخ محمد عبد الله دراز (1894 ـ 1958) وتأثر به وهو عالم أزهري له عدة مؤلفات من أشهرها "دستور الأخلاق في القرآن".

ويبين سؤال محنض بابه أنه لم يقرأ فقط كتابات القرضاوي لكنه أيضا مطلع على مسيرته العلمية ويعرف بعض أشياخه.

 بعد ذلك سأل محنض بابه القرضاوي إن كان ملما ببعض اللغات الأجنبية وخاصة الإنجليزية فأجاب القرضاوي بتواضع: "أنا يادوب أعرف اللغة العربية".

ولست أدري إن كان محنض بابه يستحضر في تلك اللحظات لقاءات القرضاوي بالباباوين بولص الثاني وبينديكت السادس عشر وغيرهما من القساوسة والحاخامات وهل كانت تدور باللغة الإنجليزية أم من وراء حجاب الترجمة؟

بعد ذلك حاول محنض بابه فيما يبدو أن يتطرق إلى الأمور الجوهرية ففتح باب الحديث عن ملابسات اعتذار القرضاوي عن التقديم لكتاب أبى الحسن الندوى (1919 ـ 1999): "التفسير السياسي للإسلام" الذي صدر عام 1978. وفي هذا الكتاب ينتقد الندوي بعض أفكار أبي الأعلى المودودي (1903 ـ 1979) وسيد قطب (1906 ـ 1965) وهما من أبرز رموز الإسلام السياسي في العصر الراهن ليس فقط بالنظر إلى مؤلفاتهما واجتهاداتهما الكثيرة وإنما أيضا نظرا لعملهما السياسي الميداني ومواجهتهما للحكام.

والحقيقة أن محنض بابه بهذا السؤال فتح الباب أمام الحديث حول أبرز إشكال يواجه الفكر السياسي الإسلامي في الوقت الراهن. فالمودودي وقطب مع أنهما مصدران أساسيان لفكر الحركة الإسلامية المعتدلة فإن المفاهيم التي استحدثاها كالحاكمية وجاهلية القرن العشرين من أبرز المفاهيم التي أسست عليها السلفية الجهادية المعاصرة مواقفها الفكرية بما فيها تكفير الدولة والمجتمع ووجوب الخروج المسلح على الحكام. وقد انتقد الشيخ الندوي جل هذه المفاهيم. لكن القرضاوي تفادى الخوض في هذه المسألة مكتفيا بالقول إنه لم يحبذ الدخول بين الشيخين الندوي والمودودي.

بعد ذلك قال محنض بابه للقرضاوي: "كتابك عن الندوي جيد جدا" فرد القرضاوي : "الحمد لله الحمد لله." والكتاب المشار إليه هو: "الشيخ ابو الحسن الندوي كما عرفته" وهو كتاب صدر عام 2001 يتحدث فيه القرضاوي عن الندوي كاتبا ومؤلفا ثم داعية وموجها ثم مصلحا ومجددا ويختمه بأقوال وشهادات للشيخ من عدد من كبار علماء الأمة ومفكريها ودعاتها وأدبائها.

قبيل نهاية اللقاء بين الشيخين دخل عليهما الشيخ محمد الحسن ولد الددو الذي كان قد عرف القرضاوي بمحنض بابه لدى التهيئة للقاء فقال الددو مخاطبا القرضاوي الذي كان يشكو من وعكة صحية: "الداء يفر من الطبيب، الداء يفر من الطبيب" مشيرا إلى أن العالم الجالس بينهما طبيب أجسام كما هو طبيب أرواح.

وعندها استئذن محنض بابه للانصراف مشيرا إلى أنه يريد التخفيف على الشيخ فأنشد، مودعا القرضاوي والددو، بيت امرئ القيس:

فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب

ولم يسمع القرضاوي البيت جيدا فردده عليه الددو.

 وقد أهدى محنض بابه الشيخين زجاجتي عطر، بينما أهداه هو القرضاوي بعضا من كتبه، بينها كتابه الأخير "فقه الجهاد"، ويقع في مجلدين من أكثر من 1400 صفحة، وقد فند فيه بإسهاب آراء وموقف واجتهادات الحركات السلفية الجهادية.

وقد حاول الددو أن يحمل الكتب عن محنض بابه لكنه رفض، وعندها التفت القرضاوي إلى محب السبتي قائلا له: احمل الكتب عن الشيخ، لكن منداه ولد ابين ولد بابانا لم يبادر إلى تنفيذ أمر القرضاوي، إذ هو أعلم بتواضع شيخه وتقديسه للكتب.

وقد رويت مضمون لقاء القرضاوي ومحنض بابه عن "محب السبتي" الذي حدثني بتفاصيل ما دار فيه.

أما الأجواء التي أحاطت به فقد ذكر لي طرفا منها رئيس تحرير موقع الأخبار الهيبة ولد الشيخ سيداتي، وكان يهم بدخول فندق الخيمة عندما لفت انتباهه ذلك الرجل غريب الشكل، الذي استغرب من انفتاح باب العمارة آليا، وظن لأول وهلة أن المصعد غرفة عادية.

وقد أخذ الهيبه وأشخاص آخرون بسحر حديث محنض بابه وسعة اطلاعه عندما تحلقوا حوله في انتظار جهوز القرضاوي الذي كان نائما.

 والغريب أن الصحافة التي حرصت على تغطية دقائق وقائع زيارة القرضاوي لنواكشوط لم تغط اللقاء.

 وفي غياب التوثيق السمعي البصري، أردت بهذا المقال التبرك أولا ثم تعميم فائدة ما دار في ذلك اللقاء الذي قال لي الشيخ الددو إن الشيخ القرضاوي سرّ به سرورا شديدا.

 
بقلم الأستاذ
محمذن بابا ولد أشفغ
كاتب وصحفي