في وداع منارة الحكمة: تأملات في شخصية المرحوم أحمد ولد الشيخ ولد جدو

ثلاثاء, 24/06/2025 - 14:10

استيقظتُ صباح يوم الخميس، 19 يونيو، وأنا مشغوفٌ بزيارة الوالد السفير والإداري الذي ينتمي إلى الجيل المؤسس لموريتانيا الحديثة، أحمد ولد الشيخ ولد جدو. كان قد ألمّت به وعكة صحية أدخلته مستشفى القلب في نواكشوط، واتفقت مع الوالدة على زيارته في المساء. إلا أن ذلك السعي كان متأخرًا؛ فلم تمضِ إلا دقائق حتى وصلَنا خبرُ رحيله المفجع عن عالمنا الوهمي، ونبأُ الرزء العظيم. فحين يصلنا نبأ رحيل قامةٍ مثلِهِ من الكبار، لا نشعر فقط بالفقد، بل كأن شجرةً من جذورنا قد اقتُلِعت، وريحًا من ذاكرة وطننا قد هدأت، وذلك مع تصالحي مع الموت وفكرة اقتناصه لخيارنا.

بدأتُ أهدئ الوالدة من هول الصدمة، محاولًا التخفيف عنها، وبينما أنا كذلك، تقاذفتني بغتةً أمواجُ الذكريات والأفكار المُؤجلة، وسار ذهني نحو غرفته أو متحفه الشخصي في مسقط رأسه بمدينة بوتلميت، وإلى آخر لقاء جمعني به فيها، وحديثه لي ولصديقي ناصر ودادي عن بعض محتوياتها. تضمّ الغرفة أسلحةً عتيقة، ومذياعًا نادرًا، وأباريق، وحصائر، ومعدات منزلية، ورحًى للطحن، وأشياء من أيام جدته ووالدته وما قبل ذلك. وتضمّ كذلك توثيقًا للإنجازات الصغيرة والكبيرة لأفراد الأسرة، حيث تُعلّق فيها صورٌ لأفراد العائلة في لحظات تخرجهم وكدحهم المعرفي أو من تفاصيل حياتهم الأخرى، وبها صورٌ لآباء الأسرة وأمهاتها.

كان المتحفُ يبوح بملامح من شخصية الراحل المفتون بالتوثيق والحفاظ على الذاكرة الوطنية في أرضٍ يتسرب أرشيفُها في مجاهيلها اللامتناهية وفي فيافيها القفار، من فرط الإهمال والتفريط. هذا ملمحٌ عرفته منذ أول احتكاك فعلي بالراحل، بل كان من أهم ما جذبني إليه، بالإضافة إلى انحيازه دومًا إلى الطرح الوطني والدولة المؤسسية وتذكيره بذلك، وتقديسه للصداقة والعلاقات الإنسانية والأرض وإعمارها بما لا يضرّها.

كان أحمد ولد الشيخ ولد جدو، أو "Papa" كما يُلقّب بالنسبة لي، شخصيةً نابعةً من كتب التاريخ، أو أحد شخوص رواية أدبية تتحدث عن عالمٍ فريدٍ تختلط فيه الصرامة في المهام الرسمية وعلو الهمة بالزهد والعفوية الناضجة والأنيقة. كان شخصًا أسمع عن حكاياته ولا أعرفه واقعيًا.

رجلٌ وُلد ونشأ في حقبة مفصلية من تاريخ موريتانيا، حيث كانت الدولة الموريتانية تخرج من رحم الاستعمار إلى عالم الاستقلال. شبَّ على فكرة الوطن، لا كشعار بل كتكليف ومسؤولية. حمل الشهادة بيد، والإيمان بالدولة الحديثة في قلبه. تنقّل بين المناصب الإدارية والسفارات، وساهم في تأسيس خطوط الإدارة الأولى، وكان من أولئك الذين مهّدوا لحضور موريتانيا على طاولات العالم باحترام ووقار.

لكن بعد مبادرة منه، تعمّقت معرفتي أكثر بالراحل، حيث دعاني إلى منزله مع بعض أبناء الأسرة ليتعرّف علينا، ودعا صديقه وخليله الوزير محمد عالي شريف، لنسمع منه أيضًا. كانت فرصةً بهيةً لي، فأنا ليس من عادتي أن أقدم على كبار السن بغير طلبهم، ولا أحب اقتحام مساحاتهم الخاصة. ومن هنا كانت بداية علاقة تتجاوز العلاقة العائلية.

ومع الأيام، صرت أزوره كلما سنحت الفرصة، أو آتيه بمن يبحث في تاريخ البلد، وخاصة الجانب الدبلوماسي، ولم أجالسه إلا واستفدت.

لكن وراء الألقاب والمسؤوليات، ترسّخ في وجداني وجهه الأكثر خصوصية والأقرب إلى قلبي: وجه الإنسان المحب لأصدقائه والذي أحب التوثيق، لا كهاوٍ، بل كمؤرخ بالفطرة. كان يجمع التحف القديمة بعين العاشق، ويوثق شؤون العائلة بدقة المؤتمن، كما يوثّق يوميات الدولة بنظرة من يعرف أن الأوطان تُبنى بالتفاصيل الصغيرة كما تُبنى بالقرارات الكبيرة. فلم يكن يكتفي بأن يعيش اللحظة، بل كان يحرسها من النسيان، وصارت علاقتي به أكثر من صلة قرابة. كانت علاقة بمعلم، ولطالما وجدت فيه من يستمع دون استعجال، ويجيب دون استعلاء. يهمس دومًا بأن الوطنية لا تعني أن نرفع الشعارات، بل أن نلتزم، ونصمت أحيانًا لنعمل أكثر، وأن نحترم التاريخ كما نحترم الناس.

واليوم وبعد انقضاء أيام التعزية، وأنا أتأمل صورة جمعتني به في متحفه، لا أرى فقط قريبي وأسنّ رجل في أسرتي، بل أرى رمزًا لجيل نادر آمن بأن الدولة حلم جماعي يستحق العرق والعقل والوفاء. جيلٌ لا يُعوَّض، لكنه يُخلَّد في النفوس والسجلات وفي التحف التي جمعها بعناية لتروي ما لم تقله الألسن.

وأرى صديقًا محبًا لأصدقائه، محافظًا على الود.

وأقول: رحل الجسد، لكن الذاكرة لم ترحل. وسأظل ممتنًا له، لأنني تعلمت منه أن أجمع المعنى، كما كان هو يجمع التحف. وأن أوثّق مشاعري وعلاقاتي كما وثّق هو مسيرة وطن بأكمله.

رحمك الله يا منارة الحكمة، وألهمنا أن نحفظ ما تركته من إرث وضمير.

وفي الختام، أعزّي فيه أولًا خليله محمد عالي شريف، تقديرًا لصداقتهما التي طالما فتنتني، الصداقة التي وصفها محمد عالي شريف في تأبينه لصديقه، قائلا: "كنت محظوظًا بأن جمعتني وإياهُ صداقة حميمة لمدة خمسة وخمسين (55) عامًا. في الثلاثين (30) سنة الأخيرة منها ، كنا نلتقي بانتظام بالتناوب بين نواكشوط وبوتلميتْ ، في جلسات طويلة هادفة ، وحوارات نادرة العمق. كان حديثنا متكافئا ، لكنه كان دائمًا كلامًا في الصميم. كان يعرف كل شيء، لكنه لم يكن يتبجح بعلمه"، وثانيًا أعزّي فيه الأهل بمفهومهم العام والخاص والوطن والإنسانية. رحمه الله وغفر له وأدخله فسيح جناته.

أحمد ولد جدو