إسبانيا والناتو: رؤية نقدية في ضوء رسالة رئيس الحكومة الإسبانية إلى أمين عام الناتو

خميس, 26/06/2025 - 13:58
الكاتب الصحفي/ أحمد يحياوي

 

في خضم التوترات الجيوسياسية المعقدة التي تشهدها الساحة الدولية، تتبلور صراعات جديدة تنعكس على السياسات العسكرية والاقتصادية للدول. ومن بين تلك القضايا، برزت رسالة رئيس الحكومة الإسبانية إلى أمين عام حلف شمال الأطلسي "الناتو"، التي تطرقت إلى متطلبات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بشأن إنفاق الدول الأعضاء %5 من ميزانيتها على الدفاع. حيث أكد رئيس الحكومة الإسبانية بوضوح أن بلاده لن تلتزم بهذا المطلب، مشيراً إلى الأثر السلبي المحتمل لهذا القرار على البرامج الاجتماعية والتنموية لدعم العيش الكريم للمواطنين.

 

تعتبر هذه الرسالة تجسيداً للاعتراض الأوروبي على التدخل الأمريكي في الشؤون العسكرية والمالية، حيث يستشعر العديد من القادة الأوروبيين بأن هذه التحركات تهدف إلى تعزيز مصالح اللوبيات الاقتصادية الأمريكية، وخاصة شركات صناعة السلاح. وبهذا، نجد أن الطلبات الأمريكية ليست مجرد مطالب الدفاع، بل قد تكون أيضاً جزءًا من استراتيجية لتوسيع النفوذ الاقتصادي في أوروبا.

 

يتوافق مع هذه الرؤية رئيس الحكومة الإسبانية الأسبق خوسيه لويس ثاباتيرو، حيث أصر على أن الزيادة في الإنفاق العسكري ليست موجهة لحماية أوروبا كما يشاع، بل يمكن أن تؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار، محذراً من أن الأموال التي ستستثمر في التسليح لا تقدم أي ضمانات حقيقية للأمن، بل أنها قد تستخدم في صراعات قد لا تصب في صالح القارة العجوز وبالتالي، تبقى التساؤلات قائمة حول المسار الذي ستتخذه الصواريخ التي ستشترى، وكيف يمكن ضمان أنها لن تستعمل في صراعات كبرى.

 

تتزايد أصوات الإعلاميين والمحللين الذين يرون في دعوة ترامب تجسيدا لمصالح معينة تسعى لتعزيز شركات السلاحالأمريكية على حساب الأمن والشعوب. وهذا يدعو للتفكير في الأولويات العالمية، وضرورة تحقیق توازن بين الاستثمارات العسكرية وبين الحاجة الملحة إلى التنمية الاجتماعية وتحسين ظروف العيش.

 

في سياق هذه التحديات، يتضحأن إسبانيا، مثلها مثل العديد من الدول الأوروبية، تسعى لتحقيق مبدأ الاستقلالية الاستراتيجية. وهذا يتطلب منها التوازن بين الالتزامات الدولية والقدرة على حماية المصالح الوطنية، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في القوانين والأمور المالية التي تحكم الإنفاق العسكري.

 

في النهاية تدل الرسالة الإسبانية على وعي متزايد بأهمية الاستقلال في اتخاذ القرارات العسكرية والدفاعية، وتؤكد على ضرورة تحديد الأولويات بشكل يتماشى مع حقوق الإنسان والتنمية المستدامة. إن الحوار المفتوح بين الدول الأعضاء في الناتو حول هذه القضايا أصبح أمراً ضرورياً، حيث يتوجب على جميع الأطراف أن يضعوا في اعتبارهم التوازن بين المصالح الدفاعية والإنفاق على التنمية الاجتماعية. لأوروبا تاريخ غني بالتعاون والتكامل، ويجب أن يستمر هذا التعاون، لكن ليس على حساب المواطنين أو القيم الإنسانية الأساسية.

 

تسعى إسبانيا، من خلال موقفها إلى تعزيز فكرة أن الأمن لا يتحدد فقط من خلال التسلحوزيادة الإنفاق العسكري، بل من خلال استراتيجيات شاملة تتيح التنمية المستدامة، وتعزز من الشراكات الدولية المفيدة للجميع. إن الأمن الحقيقي يتطلب استثماراً في التعليم، والصحة، والتنمية الاقتصادية، حيث أن هذه المجالات تشكل أساساً متيناً لمجتمع مستقر وآمن.

 

إن موجة الخطابات السياسية تبرز أهمية التفاعل الديناميكي بين الدول، والتي يجب أن تعمل معاً لمواجهة التحديات العالمية مثل الإرهاب، والهجرة، والتغير المناخي، وغيرها من القضايا التي تتطلب تعاوناً دولياً حقيقياً. بدلاً من الانخراط في سباق تسلح يشجع على التوتر، ينبغي على زعماء العالم النظر في استراتيجيات مشتركة تساهم في تحقيق الرخاء للجميع.

 

في هذا السياق، تبرز أهمية الموضوعات التي تتعلق بالتعاون الأمني وتبادل المعلومات، فهذه هي الجوانب التي تعزز من فاعلية الحلفاء وتضمن أنهم مستعدون المواجهة التحديات بشكل جماعي. وقد يشكل تبادل المعرفة والخبرات في مجالات الأمن المعلوماتي ومواجهة الكوارث أحد السبل البديلة للتعاون الدولي بدلاً من التوجه نحو إنفاق المزيد على الأسلحة.

في النهاية، تعكس الرسالة الإسبانية إلى الناتو تغيراً في التفكير الأمني الأوروبي، وتدعو إلى التأمل في الميزان الهش بين الحماية العسكرية ورفاهية الشعوب. يجب أن نستفيد من هذه اللحظات التاريخية لخلق حوار مفتوح وبناء، غير مسيس لتحديد رؤية جماعية حول ما يعنيه الأمن وما هي أولويات الإنفاق التي تعكس طموحات الشعوب، وتجسد حقوقهم في الحياة الكريمة. في الوقت الذي يسعى العالم لتجاوز النزاعات يجب أن تقدم إسبانيا ورقة رابحة في موازنة الدفاع والتنمية لنشر الوعي بأن السلام يكمن في العدالة والفرص، وليس في تكديس الأسلحة.

الكاتب الصحفي أحمد يحياوي