الغلظ والرّگة: حلقة 2: الزواج وفق قاعدة "خيام كبيرة وخيام صغيرة"

اثنين, 25/08/2025 - 13:38

(تابع...) 
إن رهانات "العقل القَبَلي" واستراتيجياته فيما يخص ظاهرة الزواج ومؤسسة الأسرة المترتبة عنها كلها تدخل تحت إطار تثبيت "الغلظ" لبعض القبائل و"الرقة" (الرّگة) لبعضها الآخر. وتُمارِس المجموعات الواقعة أعلى رأس التراتبية الاجتماعية من خلال مفهوم "الغلظ" نوعا من "العنف الرمزي" ضد الواقعين تحت الهيمنة، كما أن هذه المفاهيم (الغلظ / الرّگة) أصبحت تتمتع بمشروعية اجتماعية تجد أصلها في اعتراف الكل بأن هذا المفهوم (الغلظ) صادر في الأصل عن تقسيم ديني "إسلامي" على اعتبار أن الشريعة الإسلامية أقرّت وجود "قبائل غليظة" و"قبائل رقيقة".

 ويحاول "العقل القَبَلي" البيظاني حشد مجموعة لا تكاد تنتهي من التبريرات والأدلة "الأسطورية" التي تلبس لبوس "الشريعة" على وجود هذه التقسيمة في أصل الدين الإسلامي، وبالتالي فشرعيتها لدى المجتمع هي "شرعية سماوية" وليست "اعتباطية" ومن شأن التشكيك في هذه الحقيقة التشكيك في الدين ذاته، ولذلك فالتفكير في أصل هذه "التمايزات الاجتماعية" هو من "التابوهات الاجتماعية" لدى البيظان بل إن التفكير في أصل هذا التقسيم ينتمي لمجال "اللا مفكر فيه"  أصلا.

 من جهة أخرى، يعتبر مبدأ "الملء" مبدأ ثقافيا يتبع لطقوس العبور الاجتماعية لدى البيظان حيث تقول العبارة: "املؤوا الطفلة شحماًواملؤوا الطفل علما" ولذلك نجد المبدأ الجمالي والقيمي (الأخلاقي) للجنسين يتجسد في سمنة الفتاة وكثرة المحفوظات التي يحفظها الطفل البيظاني من المتون الفقهية والقصائد الشعرية ولذلك طالما وُصِفَتْ الثقافة البيظانية في هذا المجال بأنها ثقافة حفظ وليست ثقافة فهم.

 وتعتبر كثرة حفظ الأشعار والنصوص الفقهية أهم علامات "الفتوة" بالنسبة لمجتمع الزوايا في مقابل علامات فتوة أخرى تعتبر هي المعيار لدى الفئات الأخرى. هذه "الرؤية" تجد مبرراتها في الكلام المحلي الذي يحث عليها بمختلف أنواع التأكيدات لا سيما تلك التأكيدات التي تختلق المقولات المأثورة "المقدسة" من أن الدين يحض على مثل هذه "التَّخَلُّقات".

هذه "الفتوة" المرتبطة هنا بالملء تزخر أيضا بمواضيع تَلَبُّسِ الأسطوري بالديني، ذلك أن المعارف غير النصوص الأساسية (القرآن والأحاديث النبوية) التي يتم تلقينها للأولاد كثيرا ما يُنظر إليها نتيجة الحفظ المتعاقب من لدن الأجيال على أنها "نصوص مقدسة"، فمثلا تعتبر قصيدة "صلاةُ ربي" لقائلها "اليدالي" و"نظم المغازي" ل"البدوي" والقصيدة المنسوبة للولية الزاوية "الصغرى بنت المِسك"  والتي مطلعها "علينا من الرحمن سور مُدَوَّر" و"مثلث الغزالي". . . إلخ كلها نصوص مقدسة يتم استعمالها لأغراض متعددة مثل التداوي والتحصن من الأعداء والتوسل ورفع الحاجات. إلخ.

توجد كذلك اختلافات جزئية بين النظرة الجمالية العربية وبين النظرة الزاوية، فالعرب أكثر مَيْلًا إلى "المرأة المتحنكشة" النشطة التي تتميز بصفة (اتحنكيش) ويقال إنها "تفگراشت" وهي الصفة التي تتطلب "التخفيف" من الشّحم والبدانة، بينما يميل الزوايا أكثر إلى المرأة الخاملة "المرأة المتسعة"، ويعني الاتساع هنا من بين معان عديدة الكسل، كما يعني في دلالات أخرى لزوم المكان الذي هو عبارة عن نوع من العفة أو عدم الرغبة والمبادرة تجاه الرجال. ويستلزم "الاتساع" وفق هذه الرؤية الكثير من "الشحم" الذي يساعد المرأة على الخمول والكسل. وهذا ما يؤدي إلى ثقافة القعود وقلة العمل البدني (وهما يكرِّسانه أيضا). كما أن طبيعة الأثاث (الحصائر، الوسائد. الخ) ونمط الجلوس في الثقافة البيظانية تعين على ذلك الاتساع. 

تتموقع الصناعة الاجتماعية للجسد الأنثوي (والذكوري بدرجة أقل) بالنسبة للبيظان بين الأسْطرة والتدين، ذلك أنّ "تقنيات الجسد" كما يسميها "مارسيل موس" تأخذ مكانها هنا في إنتاج هذه الرؤية الجمالية والوظيفية لدى مجتمع البيظان، حيث يتم "تنشيئ" الجسد اجتماعيا وفق "تقنيات تَخَلُّقيّة" تبدأ منذ الولادة وتجعل الفرد فيما بعد يعتمد على وضعيات حركة وهيئات سكون تتناسب مع الثقافة الجمالية والوظيفة المُشار إليها آنفا. ووفق رؤية بورديو فإن "الاجتماعي يخلق الجسد".

 هذا "الهيكسيس" (التخلق) يمثل الاستعدادات الجسمانية التي تشكل علاقة بالرؤية الاجتماعية الدينية لجمال ووظيفة الجسد وتُكسِب كل مجموعة أسلوبا خاصا بها، والتخلق الحسدي لدى البيظان بهذا المعنى يكشف لنا كيف أنّ تصور العالم الاجتماعي يوجد بقوة على مستوى "تمثلات الجسد" أو هو "أخلاقٌ اجتماعيةٌ مُسْتبْدَنة" . وفي هذا المجال يحشد المجتمع البيظاني جملة من التعاليم الأخلاقية  التي تنتمي لمجال "المقدس الأسطوري" ويعزوها إلى "الدين" لتتحول لدى الأفراد من إطار "المدنس الدنيوي" إلى حقل "المقدس الديني" إذْ يتم انتحال أحاديث نبوية أو نصوص تراثية مقدسة غايتها إعطاء صبغة دينية لتلك الوضعيات الاجتماعية. 

كما تربط الثقافة بين الكثير من التّخلُّقات الجسدية الأنثوية والبدانة و"الاتساع" وبين زيادة حظوظ الأنثى في "استراتيجيات الاقتران الزواجي". يقول المثل البيظاني "المرأة تأخذ من قلب الرجل ما يأخذه حجمها من الفراش".
 هذا المبدأ الجمالي المتعلق بالبدانة يعتمد على بعدين: بعد مأخوذ من الثقافة العربية الجاهلية التي تُعلي من شأن جمال المرأة البدينة، والأشعار الواردة في المعلقات الشعرية الجاهلية توضح هذه الخاصية بجلاء. والمبدأ الثاني هو مبدأ "الندرة والقحط" وربما أَخذت الثقافة الجاهلية العربية القديمة مبدأ "جمالية السُّمنة"  في الأصل من هذه الخاصية، فالبيئة التي تكثر فيها عوامل القحط والجوع والندرة ـــ على غرار البيئات الصحراوية القاحلة ـــ عادة ما يكون المعيار الجمالي لديها يتمثل في "الوَفْرة"، وفرة في اللحوم ووفرة في الحليب ووفرة في الغطاء النباتي. إلخ، الوفرة هي التي ترمز للخصب والخير، ومن شأن بدانة المرأة أن ترمز إلى أنها تَربّتْ في بيئةِ وفرةٍ، ولذلك انعكست هذه الرؤية على مقدار اللحم والشحم الذي تحمله المرأة . ....
يتواصل....