التصوف في موريتانيا… القلعة الأخيرة في وجه الوهابية والإرهاب

سبت, 06/09/2025 - 22:48

كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن الحركات الصوفية في موريتانيا. فجأة صار التصوف عند بعض الدعاة تهمة توازي الشرك، وصار المريدون في نظرهم مجرد أتباع ضالين يضيعون أوقاتهم في “الغناء” و“الرقص”، وصارت الزوايا كلها بالنسبة لهم أوكارًا للدجل وبيع الأوهام. وكأن موريتانيا لم تُعرف أصلًا إلا بمحاظرها الصوفية وزواياها العريقة التي شكّلت مدرسة كاملة في الفقه واللغة والعلوم الشرعية. وكأن هذه البلاد لم تحافظ على توازنها الاجتماعي قرونًا طويلة بفضل شبكة المشايخ والعلماء والمتصوفة الذين لولاهم لابتلعنا التطرف منذ زمن بعيد.

لنكن صرحاء: التصوف ليس بريئًا من العلل. فيه انغلاق، وفيه توريث، وفيه مبالغة في كرامات الشيوخ وتحييد للعقول. لكن مع ذلك يبقى التصوف، على علّاته، آخر القلاع القائمة في وجه المد الوهابي والسلفي، ومن ورائه المد الإرهابي الذي دمّر مجتمعات بأكملها في المشرق والمغرب. لم يحدث في تاريخ موريتانيا أن دعا شيخ صوفي إلى تفجير سوق أو مسجد أو قتل جار لأنه خالفه الرأي. أما فتاوى القتل والتكفير فنحن نعرف جيدًا من أين جاءت، ومن أي جامعات خرجت، ومن أي عواصم صُدّرت إلينا.

لقد أنجبت هذه الأرض رجالًا من المتصوفة كانوا حصونًا للمجتمع ضد الفوضى: الشيخ سيديا الكبير، الشيخ محمد فاضل، الشيخ سيدي المختار الكنتي، الشيخ حماه الله، الشيخ محمذ فال ولد متالي، وغيرهم. أسماء يكفي ذكرها لتدرك أن موريتانيا ما كانت لتبقى موحّدة ولا مسلمة لولاهم. هؤلاء لم يرفعوا السلاح في وجوه المسلمين، بل رفعوا الكلمة، وربّوا الأجيال، وزكّوا النفوس. فهل يُقارنون بدعاة اليوم الذين يوزّعون فتاوى الدم على الهواء مباشرة؟

وليس التصوف مجرد شأن داخلي موريتاني. بل هو الذي حمل الإسلام إلى أعماق إفريقيا: من نهر السنغال إلى بحيرة تشاد، ومن تمبكتو إلى فزّان. وهو الذي منح موريتانيا عمقها الاستراتيجي في القارة، وجعلها مصدر إشعاع ديني وثقافي يُذكر في مالي والنيجر ونيجيريا والسنغال. قبل أن تعرف هذه البلدان المدارس الحديثة والجامعات، كان مشايخ التصوف هم من ينشرون العلم والإيمان. التصوف لم يكن مجرد أوراد وحلقات ذكر، بل كان جسرًا حضاريًا ربط موريتانيا بإفريقيا وأعطاها وزنًا أكبر من كل حسابات السياسة.

أهل الذكر والورد، مهما غرقوا في طقوسهم، يظلون مسالمين. أقصى ما يفعلونه حلقة إنشاد أو دعاء عند قبر ولي. لم يعرفوا لغة الدم ولا فتاوى التكفير. والمفارقة أن الذين يسخرون من الغناء والرقص في الحضرات هم أنفسهم من يبرّرون حمل السلاح باسم “التوحيد” و“الجهاد”. فأيهما أخف على المجتمع؟ شيخ طريقة يجمع الناس حول الحضرة والإنشاد، أم شيخ فضائية يبشّر بقتل المخالفين؟ أيهما أهون: أن يقضي الشباب ساعات في السماع، أم أن يقضوا أعمارهم في الكهوف بين “الموقعين بالدم” و“الملثمين” و“التكفيريين”؟

التصوف ليس جسمًا غريبًا زُرع فينا، بل هو جزء من هويتنا. الزوايا والمحاظر شكّلت العمود الفقري لمجتمعنا؛ علّمت الناس القراءة والكتابة وحفظ القرآن، وصانت اللغة العربية في محيط إفريقي متعدد، وزرعت قيم الزهد والتواضع والرحمة، حتى وإن انحرفت بعض الفروع لاحقًا. اقتلاع التصوف يعني اقتلاع نصف ذاكرتنا الجماعية وترك فراغ لا يملؤه إلا الإرهاب.

انظروا حولكم: الجزائر نزفت دمًا عقدًا كاملًا لأنها تركت الفراغ يتمدد، ومالي ما تزال تنزف لأنها لم تبنِ سدًا أمام المد الوهابي، ونيجيريا ابتلعها “بوكو حرام” بعدما جُرّفت مدارسها التقليدية. أما نحن في موريتانيا فنجونا نسبيًا لأن الزوايا والتصوف شكّلا حائط صد. لم يكن حائطًا عسكريًا ولا أمنيًا، بل نفسيًا وروحيًا جعل الناس بطبعهم ينفرون من دعوات التكفير والقتل.

صحيح أن بعض الطرق الصوفية تحولت إلى إقطاعيات مغلقة، وأن بعض المشايخ صاروا يتاجرون بالبركة والأحجبة، لكن ضررهم – مهما كان – أخف من انفجار المساجد والأسواق. فالخرافة تُناقَش وتُصلَح بالتعليم والنقد، أما الرصاصة والتكفير فلا دواء لهما إلا الدم. والعقل السليم إذا خُيّر بينهما اختار الصوفية، ولو كـ“أخف الضررين”.

التصوف يحتاج إلى إصلاح، نعم: إلى أن يتخفف من التكلّس والانغلاق، وينفتح على قضايا المجتمع، ويتحرر من وراثة المشيخة كما تُورَّث الضيعة. لكن حتى مع كل هذه الملاحظات، لا يجوز أن نهدمه ونشيطنه. فالمجتمع الذي يهدم حصنه الأخير دون أن يبني بديلًا، يسلّم نفسه إلى الجحيم.

إخوتي، لنتوقف عن شيطنة التصوف. لنجرؤ على نقده من الداخل، لكن دون أن نفتح الباب أمام الفراغ القاتل. فالتصوف، بما له من تاريخ ودور في نشر الإسلام في إفريقيا، يبقى هو الحاجز أمام دعاة الدم. موريتانيا لا تتحمل صراعًا أهليًا ولا حربًا إرهابية جديدة. وما دمنا لم ننتج فكرًا جامعًا بديلًا، فعلينا أن نحافظ على هذه القلعة الأخيرة ونساندها ونحميها.

 

وأقولها بوضوح: نحن اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما. إما أوراد الصوفية، أو رصاص الوهابية. فمن أراد هدم الزوايا فليتحمل تبعات ما سيأتي بعد ذلك. أما نحن، فبرغم كل شيء، سنقف إلى جانب التصوف، لا حبًا في الكرامات، بل كرهًا في المقاصل والجماجم المقطوعة.

السالك ناجم