صعود التفاهة في موريتانيا.. أزمة قدوة تهدد مستقبل الشباب!

خميس, 02/10/2025 - 09:06

لم يعد خافيا أن التفاهة في موريتانيا قد تحولت من مجرد ظاهرة هامشية إلى "تيار جارف" يكاد أن يجرف ويبتلع كل شيء يقع على طريقه، وذلك بعد أن بهر - أي تيار التفاهة الجارف -  عقول الشباب، وخطف أبصارهم، وخلق لهم قدوات وهمية من "اللا شيء".

 

يحدث هذا في وقت تكتفي فيه النخب الجادة، أو التي يفترض أنها جادة بالتفرج، أو تنشغل في أحسن الأحوال بصراع عبثي غير ناضج، يضع فيه الموالون النظام الذين يدعمون فوق المصالح العليا للبلد، ويضع فيه المعارضون المصالح العليا للبلد في درجة ثانية بعد مصالحهم السياسية الضيقة.

 

إن هذا الاختلال البيِّن في التوازن بين نخب جادة تكتفي بالتفرج، وتفاهة تتسع وتتمدد بشكل سريع، ينذر بخطر كبير يهدد مستقبل البلد. ومما يزيد من خطورة التهديد أنه لم تعد توجد في بلادنا نخبٌ جادة مقنعة وملهمة للشباب، قادرة على مقاومة تيار التفاهة الجارف، ويعود ذلك لأسباب كثيرة ذكرتها في مقالات سابقة، ولا يتسع المقام لاستعراضها هنا، ويبقى الزهد الإعلامي لبعض النخب التي كان يمكن أن تشكل قدوات للشباب في مجالها، أحد تلك الأسباب. وبخصوص الزهد الإعلامي لبعض النخب الجادة، فإني سأقدم لكم مثالا حيا يتعلق بصديقين فاضلين، قد لا يرتاحان لذكرهما في هذا المقام، ولكني سأذكرهما لأنهما خير مثال يمكن أن يقدم في هذا المقام، فهما من أوائل الموريتانيين الذين دشنوا الانترنت في بلادنا، ومع ذلك فلا يعرفهما إلا القليل جدا، ويمكنني أن أجزم بأن نسبة من يعرفهما من نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي قد لا تصل إلى 1%.

 

ويمكنني أن أجزم كذلك أن أغلبية من سيقرأ هذا المقال، لم تسمع من قبل عن إبراهيما با، وهو الموريتاني الوحيد الذي يشغل اليوم وظيفة سامية في شركة "ميتا" (فيسبوك)، ولا عن إسلمو ولد المعلوم، وهو أول موريتاني عمل في شركة "غوغل".

 

با إبراهيما وإسلمو ولد المعلوم يرجع لهما الفضل في تسجيل أول اتصال لموريتانيا بالأنترنت من خلال تأسيسهما - بالتعاون مع آخرين - لأول مجموعة بريدية موريتانية على الأنترنت، وكان ذلك في العام 1994، وتبادلا من خلال تلك المجموعة أول رسالة إلكترونية يبعثها موريتاني لموريتاني عبر مجموعة بريدية موريتانية، إنهما من "الآباء المؤسسين" للأنترنت في موريتانيا، ومع ذلك فعندما نُجري اليوم بحثا في الأنترنت عن صورهما فأقصى ما سنجد صورة أو صورتين، وعندما نزر حساباتهم في فيسبوك فستجدها شبه خاملة، إسلمو لديه عدد من الأصدقاء لا يتجاوز 180، وإبراهيما با لديه حساب أكثر خمولا، مع عدد من الأصدقاء يقارب عدد أصدقاء إسلمو.

 

إن زهد هذين الصديقين الفاضلين في الإعلام والظهور، حتى وإن كان مفهوما ومتفهما على المستوى الشخصي، ويعكس مستوى من التواضع النادر في أيامنا هذه، إلا أنه في المقابل ترك فراغا في هذا الفضاء، وساهم في غياب رموز وقدوات حقيقية وملهمة للشباب في مجال الانترنت وعوالمه الواسعة.

 

عندما يصبح "اللا شيء" قدوة!

إن غياب إسلمو وابراهيما با وغيرهم ممن كان يمكن أن يشكل قدوات للشباب في عوالم الأنترنت، يعدُّ أحد أهم أسباب سيطرة التفاهة والسطحية في فضاءات الانترنت، فمن المعروف أن الأنترنت أصبح اليوم، وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي، هو صانع القدوات والمشاهير من التافهين والسطحيين، فهو يأخذ الواحد منهم من اللا شيء فيجعل منه في غمضة عين شخصا مشهورا، مع أنه لا يملك أي شيء مفيد يمكن أن يقدمه للمجتمع، لا يملك غير الكلام الساقط والبذيء، وأكثر نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي بذاءة وإساءة هم اليوم الأكثر شهرة ومتابعة، وعندما يشعر الواحد من هؤلاء تباطؤا في تصاعد شهرته، يفتعل معركة مع أخ له في التفاهة والسطحية، يستخدمان فيها مخزونهما من الكلام السيء والبذيء الذي لا ينضب، فيزداد بذلك عدد أصدقائهما ومتابعيهما، وتكثر التعاليق والإعجابات والمشاركة لما ينشران من تفاهة، ويتحول تبادلهما للشتائم إلى "قضية رأي عام" يتابعها الجميع.

 

لقد أصبح من العادي جدا أن تزداد شهرة كل ناشط في مواقع التواصل الاجتماعي إذا خاصم فجر، ولعلكم تتذكرون الآن نشطاء في هذا الفضاء ارتفعت أسهمهم وازدادت شهرتهم بعد معارك سخيفة استخدموا فيها ما استخدموا من كلام هابط وبذيء.

 

وعلى النقيض من زهد الصديقين إسلمو وابراهيم با في الإعلام، وهم الذين يمتلكون ما يمكن أن يقدموه للإعلام، نجد أن نجوم التفاهة والسطحية في الأنترنت، وهم الذين لا يملكون أي إنجاز معرفي أو مهني، ولم يقدموا في حياتهم شيئا مفيدا سوى الصراخ بالكلام السيء والبذيء، نجدهم مع ذلك حريصين على الظهور باستمرار في مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى تقديم "اللا شيء" في أحسن الأحوال، وتقديم السيء والبذيء في أغلب الأحوال، فيتحولون بتكرار ظهورهم، وبما يتلفظون به من كلام سيء وبذيء إلى قدوات لآلاف المراهقين والشباب الذين ربما يكونون قد أعياهم البحث عن قدوات صالحة في مواقع التواصل الاجتماعي، والتي يقضون فيها جل أوقاتهم، فلم يجدوها.

 

في مثل هذا الوقت الذي اختارت فيه النخب الجادة - أو أجبرت- على الانزواء والتفرج، وعلا فيه ضجيج التافهين واتسع حضورهم في مواقع التواصل الاجتماعي، والتي أصبحت هي الموجه الأول للشباب، فسنجد أن شبابنا قد انقسم إلى ثلاث فئات أساسية:

1. شباب متسرب من المدارس: يمثل نسبة كبيرة من الشباب، انخرط جله في عالم الجريمة وتعاطي المخدرات. أغلب الجرائم المسجلة في السنوات الأخيرة يقف وراءها شباب أو مراهقون تسربوا من التعليم.

2. شباب منشغل بالتفاهة: لا يتعاطى المخدرات ولا يرتكب جرائم، ولكنه ضائع في متابعة محتوى فارغ، يصنع من التافهين الذين يجمعون مالا سهلا من هذه المواقع رموزا وقدوات يحتذى بها.

3. شباب جاد وناجح في مساره التعليمي، وفيه من يمتلك مواهب في مجالات نافعة، لكنه بلا قدوات ملهمة، ولا يجد حاضنات ترعاه.

 

الحاجة إلى صناعة القدوة والحاضنة

إن غياب الرموز القابلة للتسويق إعلاميا وثقافيا للشباب يُعدُّ مشكلة كبرى، فالشباب الجاد بحاجة إلى حاضنات ترعاه وقدوات ملهمة. ولذلك فقد اقترحتُ سابقا أن يعلن عن يوم وطني للمواهب الشبابية يستقبل فيه رئيس الجمهورية في القصر الرئاسي كل الموهوبين الذين مثلوا بلادنا في مسابقات إقليمية أو دولية في شتى المجالات العلمية والثقافية والرياضية، هذا فضلا عن إطلاق جائزة وطنية للمواهب الشبابية تحمل اسم رئيس الجمهورية، ليكرم من خلالها شبابنا المتميز علميا أو ثقافيا أو رياضيا.

 

إن الأخذ بهذه المقترحات سيساعد في خلق رموز شبابية من الوسط الشبابي نفسه، ويمكن لهذه الرموز أن تشكل مستقبلا قدوات ملهمة للشباب الضائع في مواقع التواصل الاجتماعي، ويمكنها أن تعيد الاعتبار للجدية في صفوف الشباب، بدلا من تركه يتخبط في التفاهة ويسير خلف التافهين.

 

ختاما

إن موريتانيا بلد شاب، 70% من سكانه تحت سن الثلاثين. ومصير هذا البلد مرتبط بمصير شبابه. فإذا تُركوا لسطوة التفاهة وضجيجها، فإن المستقبل سيكون مقلقا. أما إذا تم الاستثمار في المواهب والقدوات الحقيقية، فإن موريتانيا يمكن أن تحجز مكانة لائقة في عالم يتغير بسرعة.

 

في الصورة أتوسط صديقي الفاضلين إبراهيما با وإسلمو وقد التقطها لبرفسير محمد باب سعيد. منذ فترة وأنا أدعو الصديقين الفاضلين لحضور حلقة من صالون المدونين للحديث عن تجاربهما في غوغل وفيسبوك، وعن قصة أول اتصال لموريتانيا بالأنترنت، وأرجو أن يتحقق ذلك في أحد مواسم الصالون القادمة.