
قرأتُ قبل أيام، مثل غيري من الموريتانيين، تعليقا منشورا على موقع الأخبار يعزى لنقيب المحامين الأستاذ بونه ولد الحسن يبرر فيه الخطوة التي أقدم عليها رئيس المحكمة العليا، والمتمثلة في التعبئة والحشد السياسي بمناسبة زيارة رئيس الجمهورية لولاية الحوض الشرقي بالقول أنه لايوجد نص قانوني يمنعه من ذلك!
وإذ أعبّر عن تقديري واحترامي الكبيرين لشخص الأستاذ بونه ولد الحسن ولمسيرته القانونية الثرية، فإنني - بصفتي مهتمًا بالشأن القانوني والسياسي في بلادنا، وطالبًا سابقًا للقانون - أرى أن هذا الموقف مخالف صراحةً للقواعد القانونية والأعراف السياسية المعمول بها، سواء في موريتانيا أو في غيرها من دول العالم.
فالقانون النظامي رقم 012/94 الصادر بتاريخ 12 فبراير 1994، والمعدل بالأمر القانوني رقم 016/2006 الصادر بتاريخ 12 يوليو 2006، والمنظم لمهنة القضاة، ينص في الفقرة الرابعة من المادة 14 على أنه:
"لا يحق للقضاة، حتى ولو كانوا في حالة إعارة، الانخراط في حزب سياسي أو القيام بأي تظاهر سياسي."
وهذا النص القانوني كافٍ لحسم الموضوع من الناحية القانونية البحتة.
إلا أن المسألة تتجاوز الجانب القانوني لتشمل أبعادًا إدارية وسياسية، نظرًا لطبيعة موقع رئيس الجمهورية الذي يجمع بين صفته رئيسًا للمجلس الأعلى للقضاء بموجب المادة 89 من دستور 21 يوليو 1991 المعدّل في 2006 و2012 و2017، وبين صفته رجلًا سياسيًا يسعى - كغيره من السياسيين - للقيام بزيارات ميدانية داخل البلاد بهدف تعزيز حضوره السياسي وتقوية قاعدته الانتخابية.
- رئيس الجمهورية كمجسد لسيادة الدولة
تقتضي الأعراف السياسية والقانونية أن يحظى رئيس الجمهورية بالاحترام الواجب لمنصبه، بصفته يجسد سيادة الدولة ورئيسًا لجميع الموريتانيين، وحاميًا للدستور، وضامنًا للسيادة الوطنية، والأمن، وحسن سير المؤسسات، واستقلال القضاء، كما نصّت على ذلك المادة 24 من دستور يوليو 1991.
ويستمد هذا الاحترام من المكانة الدستورية التي يمنحها له القانون، وهو ما يفرض على المسؤولين والهيئات الرسمية تقديره واستقباله بالشكل اللائق أثناء زياراته التفقدية للمصالح التابعة لهم، وفق مقتضيات التراتبية الإدارية، وباعتبارهم مسؤولين أمامه عن حسن سير المرافق العمومية التي يشرفون عليها.
غير أن هذا الارتباط الإداري لا يعني انتفاء استقلالية هذه المؤسسات بما فيها القضاء، إذ يكفل القانون للقضاة استقلالًا تامًا عن السلطة التنفيذية في أداء مهامهم، ويحظر عليهم أي انخراط في الشأن السياسي، نظرًا لحساسية موقعهم في حفظ توازن مؤسسات الدولة وضمان حيادها. وإلا فلماذا لايسمح لهم بالترشح للمنصاب السياسية مادام الحشد القبلي والسياسي مسموح بهما؟
وينطبق هذا المنع أيضًا على الضباط والقيادات العسكرية والأمنية، الذين يُلزمهم القانون باستقبال رئيس الجمهورية أثناء زياراته الميدانية بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة وقوات الأمن، دون أن يخول لهم ذلك المشاركة في أي نشاط سياسي أو تعبئة شعبية لدعم تلك الزيارات.
ويعود هذا الحظر إلى كون المؤسستين العسكرية والأمنية مؤسستين وطنيتين تتبعان لجميع الموريتانيين، ومهمتهما تقتصر على حماية الوطن وضمان أمنه ووحدته الترابية، كما تنص على ذلك القوانين المنظمة لعملهما.
وينسحب هذا المنع أيضًا - ولو بدرجات متفاوتة - على الإداريين المدنيين من ولاة وحكام ومديري إدارات وأطر محلية، لأنهم يمثلون الدولة لا حزبًا أو تيارًا سياسيًا بعينه. أما النواب والعمد، فاستثناؤهم جزئي، إذ يُعدّون سياسيين منتخبين يحق لهم التعبئة والحشد في الإطار الحزبي المشروع.
- رئيس الجمهورية كرجل سياسي
يُعرَّف النشاط السياسي بأنه العمل الذي يقوم به فرد أو مجموعة من الأفراد بقصد إحداث تغيير سياسي أو الوصول إلى مواقع صنع القرار، وهو بطبيعته مجال يتقبل التعدد والاختلاف، وقد يلقى دعمًا من بعض الأطراف ومعارضة من أخرى.
ومن هنا، فإن ممارسة رئيس الجمهورية كغيره من السياسيين لنشاط سياسي تعد أمرًا طبيعيًا ومشروعًا بحكم موقعه السياسي والانتخابي. وهنا يكمن الفرق بين الرئيس بصفته ساع لوظيفة سياسية معينة عن طريق الممارسة السياسية عن طريق إظهار قوته الانتخابية وقدرته على حشد المواطنين واقناعهم ببرنامجه الانتخابي بغية التصويت له أو للأحزاب الداعمة لبرنامجه وبين منصبه على رأس الدولة ورئيسا أعلى لهيئاته السيادية كما ينص على ذاك الدستور والقوانين المنظمة لهذه الهيئات والإدارات.
كذلك يحق لوزراءه والمنتخبين المحليين من عمد ونواب الداعمين لبرنامجه القيام بنفس الخطوة لإقناع المواطنين بهذا البرنامج.
إلا أن مشاركة القضاة أو رئيس المحكمة العليا في أي نشاط سياسي بغض النظر عن طبيعته -مواليا كان أو معارضا- تخرق مبدأ الفصل بين السلطات، وتمسّ حياد المؤسسة القضائية واستقلالها، وهو ما يتعارض مع روح الدستور والقوانين المنظمة لمهنة القضاء. ولذلك فالحل الوحيد لهذه المعضلة هو استقالة رئيس المحكمة العليا كتعبير عن تكفيره عن هذا الخطأ الفادح الذي لايمكن تبريره. فاستقلالية القضاء ليست مجرد مبدأ دستوري فحسب، بل هي ركيزة أساسية لقيام دولة القانون والمؤسسات، وأحد أهم ضمانات العدالة والمواطنة المتساوية. ومن ثمّ، فإن أيّ تصرف قد يُفهم على أنه تسييس للمؤسسة القضائية أو توظيف لها في العمل الحزبي أو التعبئة السياسية، يُعدّ إخلالًا خطيرًا بهذه الاستقلالية وتهديدًا مباشرًا لثقة المواطن في العدالة.
خاتمة
يُفترض في القضاة - وعلى رأسهم رئيس المحكمة العليا - أن يكونوا قدوة في احترام القانون والابتعاد عن كل ما من شأنه المساس بحياد القضاء، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. فالقاضي في نظر المجتمع ليس مجرد موظف، بل رمز للنزاهة والإنصاف، وأيّ انحراف عن هذا الدور يُضعف مكانة القضاء ويُربك التوازن الدستوري بين السلطات.
في المقابل، فإن من واجب السلطة التنفيذية، ممثلةً في رئيس الجمهورية، أن تحترم الحدود الدستورية الفاصلة بين العمل السياسي والعمل القضائي، وأن تُجنّب المؤسسات الدستورية الحساسة - كالقضاء والجيش والإدارة - أي تداخل في الأدوار أو خلط في الوظائف، حفاظًا على هيبتها وشرعيتها أمام الشعب.
إن بناء دولة قوية لا يتحقق إلا بفصل واضح بين السلطات، وبتكريس ثقافة الحياد المؤسساتي، وتعزيز المهنية والمسؤولية القانونية في كل القطاعات. فالقانون لا يُطبّق بالانتقائية، ولا يُعطَّل بالمجاملة، بل يُحترم من الجميع، حكّامًا ومحكومين على حد سواء
سيدأحمد ولد لفضل
قانوني