من وحي تقرير محكمة الحسابات وما تلاه من خطوات

جمعة, 24/10/2025 - 10:21

لقد شغلت الساحة السياسية منذ نشر تقرير محكمة الحسابات لسنتي 2022 و 2023 بالحديث عن خطورة مضمونه. فذهب البعض، عن صدق نية او لا، الى القول ان 410 مليار اوقية نهبت من طرف ثلة من الأطر، فصدم الشعب من هول ما يسمع. ففي حين يجاهد المواطن البسيط لتامين قوت يومه مواجها ارتفاعا للأسعار يقلل باستمرار قوته الشرائية ها هم المسؤولون ينعمون بالمال العام كما يشاؤون. اما المغتربون من الشباب والعاطلون عن العمل فحدث ولا حرج. 
مما دفع المحكمة الى الإسراع في نفي ذكر أي اختلاس للمال العام في التقرير المذكور. فالأمر بالنسبة لها لا يتعدى كونه أخطاء تسيير ليس الا. وان كانت المحكمة فعلا على حق فلم يصدقها الراي العام، بل اعتبر تدخلها محاولة للتغطية على المفسدين لان العامة وكثير من الخاصة لا تميز اصلا بين خطا التسيير والجريمة المالية كما لا تدرك ولا تهتم بالفرق بين القانون الإداري والقانون الجنائي.
لكن هنا كان مكمن المشكلة. فالتقليل من شان أخطاء التسيير يفقد المحكمة مبرر وجودها وهو معاقبة هذه الأخطاء نفسها، كما يحق للشعب ان ينزعج من هذه الأرقام المتداولة، حقا او كذبا، لأنه اوكل الى الموظفين تسيير شانه العام فحكمت محكمة مختصة بفشلهم الذريع في ذلك. فسواء كان ما حدث خطا تسيير او جريمة مالية فالنتيجة واحدة بالنسبة له وهي انه وضع ثقته في غير محلها.  
لقد أدركت السلطات العليا في الوقت المناسب ان الجدال مع الشعب لا يفيد وان التركيز على الجرائم المالية يعتبر في حد ذاته اذنا بسوء التسيير. كما تبادر لها ان حجم هذه الأخطاء الإجمالي يشكل تهديدا كبيرا لتنفيذ مشاريع الدولة ولتحصيل ايراداتها. فامتناع المسيرين عن تطبيق غرامة التأخير المنصوص عليه في التقرير كلف الدولة ما يناهز 125667370 اوقية جديدة كما تسبب في تأجيل مشاريع عدة. والأخطر من ذلك تسبب عدم اقتطاع الضرائب والرسوم وتسجيل العقود في فقد الدولة مبلغا ضخما يبلغ 4 888 046 090 اوقية جديدة. لذا كانت العقوبة الجماعية مبررة لاشتراك الجميع في الاضرار بمصالح الدولة بشكل كبير. وكانت ضرورية أيضا لقمع التمادي في هذه الأخطاء. 
ان قرار الحكومة الأخير يؤرخ لمرحلة جديدة يكون فيها حسن التسيير والإصلاح مركزيا. فلن تجرؤ المؤسسات العمومية كعادتها على اقتطاع الضرائب والرسوم من مورديها ورفض دفعها للخزينة العامة. كما سيحترم المقاولون اجال تنفيذ الاشغال خوفا من العقوبة. اما الانفاق غير المستحق والاكتتاب خارج المساطر فسيكون أصعب. بالإضافة الى ذلك سوف يفكر الآمرون بالصرف مرات عدة قبل الاخلال بتبويب الميزانية الموكلة إليهم.  اما المحاسبون العموميون فسيجدون الجرأة على رفض تسديد النفقات غير المؤسسة.
كما ان تأكيد رئيس الجمهورية عزمه على مكافحة الفساد في خطابه يوم 20 أكتوبر 2025 وحثه هيئات التفتيش على تكثيف عملها وتفعيل تقاريرها يثلج صدورنا نحن معشر المفتشين والمدققين. فكم مرة نلاحظ أنواع أخطاء التسيير دون ان نشعر بتفاعل مع ما نكتب. فكان أخطاء التسيير مباحة ووحده الاجرام المالي ما يزعج. 
وبالرغم مما قيل أعلاه، فان تقرير المحكمة يستحق دراسة أعمق خصوصا في مجال تحديد المسؤوليات وذلك من خلال الإجابة على التساؤلات التالية:
هل يعفي تفويض توقيع الامر بالصرف بموجب المرسوم 066 -2010 الوزير من المسؤولية؟
هل ان الدور الرقابي للمسدد يجعله مسؤولا، شخصيا وماليا، عن الأخطاء في النفقات المسددة من طرفه؟
هل يجتمع المسدد والامر بالصرف في المسؤولية؟
هل يمكن ان يجتمع محاسبان عموميان  في وزارة واحدة؟
هل يمكن ان يسائل شخص واحد عن طلبات التسديد الفوري DRI مادامت موقعة من عدة اشخاص معروفين؟
هل يعقل عدم مسائلة المراقب المالي إثر تأشيره على نفقات مخلة بالتبويب fausses imputations ؟
اليس المراقب المالي والمحاسب العمومي هما حارسا المال العام؟
وفي الختام، فان تصفية المفسدين من الإدارة تشبه الى حد كبير عملية تنظيف المدينة من الغمامة. ان لم تكن يومية ومستمرة فان الاوساخ ستتراكم في الطرقات والازقة، خصوصا إذا كان اولك المسيرون مستقدمين من الشارع أصلا.
محمد يحي ولد محمد يحي
مفتش عام للمالي