
بين خطابٍ أمميٍّ يزداد ميلًا إلى “الواقعية السياسية” ومخيماتٍ ما زالت تنتظر وعد الاستفتاء،
تظلّ قضية الصحراء الغربية جرحًا مفتوحًا في ذاكرة الأمم المتحدة وامتحانًا حقيقيًا لضمير العالم.
اعتمد مجلس الأمن الدولي مساء الجمعة 31 أكتوبر 2025 قرارًا جديدًا حول قضية الصحراء الغربية، مدّد بموجبه ولاية بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية (مينورسو) حتى أكتوبر 2026. أكد بموجبه في صياغةٍ لافتة أن مقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية يُعدّ «الحل الواقعي الممكن» للنزاع الذي دخل عقده السادس، وهو توصيف يعكس تحوّلًا لافتًا في الخطاب الأممي من منطق "الاستفتاء الشعبي" إلى منطق "الواقعية السياسية".
غير أن هذا القرار، الذي اعتبرته الرباط انتصارًا دبلوماسيًا جديدًا، أعاد في المقابل إلى الواجهة سؤالًا قديمًا ظلّ معلّقًا منذ أكثر من نصف قرن:
من يملك الكلمة الأخيرة في تقرير مصير الصحراء الغربية ؟
من الاستعمار الإسباني إلى المسيرة الخضراء
تعود جذور القضية إلى عام 1884 حين أعلنت إسبانيا ضمّ منطقة الصحراء الغربية إلى مستعمراتها، وأطلقت عليها اسم الصحراء الإسبانية.
وخلال نحو تسعين عامًا من الوجود الاستعماري، ظلّ السكان الصحراويون يعيشون في عزلة نسبية، بينما تزايد الوعي السياسي في ستينيات القرن العشرين بعد إدراج الأمم المتحدة الإقليم ضمن قائمة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي سنة 1963، ما يعني وجوب تصفية الاستعمار منه.
في أوائل السبعينيات، ظهرت جبهة البوليساريو (الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب) عام 1973 كحركة مقاومة تطالب بالاستقلال الكامل عن إسبانيا.
لكن مع اقتراب مدريد من الانسحاب، دخلت أطراف جديدة على الخط؛ إذ تقدمت المغرب وموريتانيا بمطالب متعارضة لضمّ الإقليم، استنادًا إلى روابط تاريخية وقبلية.
وفي 16 أكتوبر 1975، أصدرت محكمة العدل الدولية رأيًا استشاريًا حاسمًا أكدت فيه أن الروابط التاريخية لا ترقى إلى السيادة، وأن للشعب الصحراوي حقّ تقرير المصير عبر استفتاء حرّ ونزيه.
غير أن المغرب أطلق بعد ذلك بشهر “المسيرة الخضراء”، حين عبر أكثر من 350 ألف متطوع مغربي إلى الإقليم في مظاهرة جماهيرية رمزية، دفعت بإسبانيا إلى توقيع اتفاق مدريد الثلاثي في نوفمبر 1975، والذي نصّ على تقسيم الإقليم بين المغرب وموريتانيا دون استشارة الشعب الصحراوي.
رفضت جبهة البوليساريو هذا الاتفاق، وأعلنت في 27 فبراير 1976 قيام الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، التي اعترفت بها لاحقًا عشرات الدول وانضمت إلى الاتحاد الإفريقي.
اشتعلت الحرب بين الجبهة من جهة، والمغرب وموريتانيا من جهة أخرى، قبل أن تنسحب نواكشوط من النزاع عام 1979 وتعترف رسميًا بالبوليساريو ممثلًا شرعيًا للشعب الصحراوي.
لكن الحرب بين الجبهة والمغرب استمرت حتى عام 1991 حين تمّ التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار برعاية الأمم المتحدة، وإنشاء بعثة مينورسو بهدف تنظيم استفتاء لتقرير المصير خلال بضعة أشهر فقط...
غير أنّ هذا الاستفتاء لم يُجرَ حتى اليوم، بعد خلافات عميقة حول هوية من يحقّ لهم التصويت، وتعطّل المفاوضات مرارًا رغم عشرات الجولات التي رعتها الأمم المتحدة.
خلال العقود الثلاثة الأخيرة، تحوّل الخطاب الدولي تدريجيًا.
فقرارات مجلس الأمن في التسعينيات كانت تؤكد صراحة على حق تقرير المصير عبر الاستفتاء، لكن منذ منتصف الألفية بدأت لغة القرارات تتبدّل، مع تركيز متزايد على “حلّ سياسي واقعي ودائم ومتوافق عليه”.
ومع طرح المغرب في عام 2007 مقترح الحكم الذاتي تحت سيادته، بدأ هذا المقترح يحظى بدعم واضح من واشنطن وباريس، في حين ظلّت الجزائر والبوليساريو تطالبان بالعودة إلى منطق الشرعية الدولية وإجراء الاستفتاء المؤجل.
اليوم، بعد أكثر من ثلاثين عامًا على إنشاء "مينورسو"، باتت البعثة نفسها رمزًا للجمود الأممي: ميزانية تُمدَّد سنويًا، وقرارات تتكرر بصياغات مختلفة، بينما يظلّ الواقع على الأرض جامدًا، والآلاف في مخيمات تندوف ينتظرون وعدًا مضى عليه جيلٌ كامل.
فهل ستبقى الواقعية السياسية، غطاء لعجز الأمم المتحدة أم أن صوت الصحراء سيعلو يوما ليحسم مصيرها ؟ 
محمد محمود ولد سيدالأمين

.jpeg)
.jpeg)


.gif)
