
وأنا أُعِدّ نصًّا للفيلسوف إيمانويل كانط لتلاميذ قسم سادس علوم، استوقفتني قولته الشهيرة: “المفاهيم دون حدوسٍ حسّية عمياء، والحدوس الحسية دون مفاهيم جوفاء.” ولأن البرنامج المدرسي بات يركّز على “ #المفهمة” أكثر من “ #الأشكلة”، فقد وجدتني أقرأ العبارة بعينٍ تتجاوز الفصل إلى الوطن.
كانط عن العلاقة العضوية بين الفكر والتجربة، بين النظر والعمل، بين المفهوم الذي يُنير والحسّ الذي يُجسّد. غير أن النص، وهو يفيض بنوره النقدي، جرّني بعيدًا عن درس الفلسفة وأسكنني في ليل #السياسة سياسة الحواضر...، حيث المفاهيم تكثر والعين تغيب، وحيث الشعارات تمشي على #عكّاز البلاغة في غياب الفعل.
من هنا تولدت فكرة هذا المقال؛ فبينما كنت أقرأ كانط بعين المدرس، وجدتني أكتبه بعين المواطن المغبون، الذي يرى أن نظام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني يجسّد المفارقة الكانطية ذاتها: #نظامٌ يجمع بين عماء المفاهيم وجوفاء الحدوس، بين فكرٍ لا يرى وواقعٍ لا يفكر.
فالخطاب السياسي حافلٌ بالمفاهيم: “التمكين”، “محاربة الفساد”، “إصلاح التعليم”، “ترسيخ العدالة الاجتماعية”... غير أنها مفاهيم تمشي على عكازٍ من الورق، لا تجد في الواقع حدوسها، ولا في التجربة شواهدها. إنها، بلغة كانط، مفاهيم عمياء.
وفي المقابل، حين تتحرك الدولة على الأرض، في مشاريعها وتعييناتها ومبادراتها، تفعل ذلك بحدوسٍ لا يضيئها فكر، وبقراراتٍ لا تنبع من رؤيةٍ .. أم فلسفة ما جابتها لگزانه... أفعالٌ بلا مفاهيم، حدوسٌ جوفاء.
لقد ورث النظام الحالي من ولد الطايع عماء البيروقراطية، ومن ولد عبد العزيز جوفاء الشعارات، فصار نسخة هجينة تجمع بين الغموض الإداري والبلاغة الفارغة.
من الأول أخذ عادة إدارة الصمت، ومن الثاني شغف تكرار الكلمات فقدت دلالتها: “التمكين”، “الإصلاح”، “العدالة”، “الحكامة الرشيدة”...
كلماتٌ تُلقى كما تُلقى الحجارة في بئرٍ لا قاع له، تُحدث صدى ولا تُحدث أثرًا... وإن وُجد الأثر ففي تقرير محكمة الحسابات!
أما “محاربة الفساد” فقد صارت أشبه بـصلاة الاستسقاء في موسم الجفاف: تُؤدَّى بوقارٍ، ويُنتظر المطر فلا ينزل.
والتمكين لم يُمكّن إلا للمُمكَّنين سلفًا، بينما الإصلاح يراوح مكانه كمن يخطو في طقسٍ من الضباب؛ ويا ليتها كانت خطى ديكارت يسير وحده في الظلمات بحثًا عن يقينٍ جديد، بل هي خطى إدارةٍ تتعثر في العتمة، تظنّ التردد حذرًا، والجمود استقرارًا، #والانكماش حكمةً سياسية.
إنها حقًا جمهورية المفاهيم العمياء: جمهوريةٌ تُتقن القول وتعجز عن الفعل، تُخطط في الهواء، وتشيّد استراتيجياتٍ لا تجد مكانًا على الأرض.
فهي، بلغة كانط مرة أخرى، دولةٌ تفكّر بلا بصيرة وتتحرك بلا عقل، كأنها آلةٌ صُممت لتجريب الخطأ #بتؤدةٍ فلسفية!
أغلقتُ الكتاب وعدتُ إلى هوامشي، فرأيت أن النص الكانطي لم يكن عن المعرفة وحدها، بل عنّا نحن أيضًا: عن دولةٍ تُمارس السياسة كما لو كانت تمرينًا في التجريد، وعن وطنٍ يقرأ خطط التنمية كما يقرأ تلميذا فقيرا نصًّا في المنطق؛ يعرف القاعدة ولا يملك المثال.
فالحكومة تعرف أن المشكل في الفساد، والمفسد معروف، لكن لا مثال على العقاب ليكون عبرةً لغيره.
وهنا، عند الهامش الأخير من الدرس، كتبتُ سؤالًا لا أعرف هل كانط نفسه كان سيبتسم له أم يتحسّر:
أترانا في دولةٍ تفكر كما ترى؟ أم في دولةٍ ترى كما تتخبط؟
أم لعلنا في جمهوريةٍ لا تفكر ولا ترى، لكنها تسير وفقًا للتوجيهات النيرة لفخامة رئيس الجمهورية ولحكومة معالي الوزير الأول”!

.jpeg)
.jpeg)


.gif)
