
لطالما سمعت عند معلمي اسماعيل ولد سيدي عبد الله رحمه الله أن شعر المناسبات يغلب عليه التصنع والتكلف ، والآن أجدني مرغما أن أخالف ذوق معلمي فأكتب مقالا بمناسبة العام الدراسي الجديد ، طبعا لن أكرر ما يكتب عادة عند الافتتاح الدراسي عن مأساة المعلم وتردي البنية التحتية و لا حتى عن صفقات الفساد داخل الوزارة المعنية ، بل سأتطرق في هذا المقال إلى طمس المظلوميات التاريخية في المناهج الدراسية .
إن المناهج ليست فقط وسيلة نقل معرفية بل هي أداة لضبط الذاكرة الجماعية ، وحين تُقصى هويات بعينها، أو تُطمس معاناة جماعية مر بها مكوّن اجتماعي ما، فإننا لا نُعلم أبناءنا كيف يقرؤون الماضي، بل نعلمهم كيف ينكرونه.
الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في تحليلاته العميقة للعلاقة بين المعرفة والسلطة يوضح كيف أن المؤسسات — ومنها المدرسة — لا تنقل المعرفة فقط، بل تنتجها وتضبطها فالمناهج ليست مجرد محتوى تعليمي، بل هي تمظهر من تمظهرات السلطة: تقرر من هو "الفاعل" في التاريخ، ومن هو "الضحية الصامتة" التي لا يُسمح لها بالكلام.
وفي السياق ذاته، لكن مع الأخذ بعين الاعتبار الخصوصية الموريتانية فإننا لا يمكن بأي حال أن نسير في طريق التنمية والرخاء دون أن نعيد النظر جذريًا في محتوى تعليمنا ، لا يتعلق الأمر فقط بإضافة فصل عن "التنوع"، بل بإعادة كتابة السردية من جذورها: أن نعترف بأن تاريخ الوطن لم يُكتب بصوت واحد، ولا بلون واحد، ولا بخط واحد.
إننا في موريتانيا بحاجة إلى مناهج تُعلم أبناءنا كيف ينظرون بحياد إلى الماضي وتُعلمهم أن التاريخ ليس سطرا مستقيما، بل نسيج من الأصوات، والدموع، والانتصارات، والانكسارات.
مناهج تُعلمهم كيف يقيمون الطبقية التي كانت سائدة و كيف يلاحظون مدى سطحية بعض الصراعات القبلية على الآبار والمراعي و كيف يتخلصون من نعرات ماقبل الدولة وخرافات العرق المتفوق .
نحن بحاجة إلى التخلص النهائي من الكذبة التي مفادها أن فتح ملف المظلوميات التاريخية خطر على الوحدة الوطنية كما يُروج البعض، بل على النقيض من ذلك هو شرط أساسي لتحقيقها، فالوحدة الحقيقية لا تُبنى على الإنكار، بل على المصارحة. والتسامح لا يُولد من النسيان، بل من الاعتراف ، والمصالحة مع الذات لا تبدأ من طمس الجراح، بل من النظر إليها بعين مفتوحة، وعقل مسؤول.
إننا بتغير المناهج لا نعطي لجيلنا الجديد معرفة خالية من الشوائب، بل نكونه على الوعي بها ، والتصالح معها وتدريب عقوله على مساءلة التاريخ لا الاحتفاء به وعلى مساءلة السلطة لا التواطؤ معها على ما لاتريد للجميع أن يعرف .
إن المطالبة بتدريس أجيالنا القادمة مظلوميات بعض الشرائح الوطنية ليس ترفا فكريا، بل ضرورة وطنية، إنه حجر الأساس لبناء مواطن لا يرى في اختلاف الآخر تهديدا، بل نافذة لفهم أعمق للذات فالمدرسة ليست مكانا لقول "كل شيء بخير"، بل لتعليم الجيل القادم كيف يعملون ليكون كل شيء بخير .
بقلم بابه يعقوب أربيه .