
يعيش الموريتاني اليوم وكأنّه يحمل ثلاث شخصيات متناقضة فوق كتفيه: شخصية يتزيّن بها أمام الناس، وشخصية يساير بها الدولة والنظام، وشخصية حقيقية يدفنها في ظلام داخله خشية أن تُمحّص بالنقد أو تُطالب بالانسجام. هذه المفارقة ليست حالة فردية، بل هي حالة مجتمع كامل تتصدّع فيه البنية العقلية كما تتصدع البيوت الطينية أمام أول مطر، لأنّ الأساسات لم تُبنَ يومًا على صدقٍ مع الذات. يصبح الفرد متدينًا في الخطاب، قبليًا في الولاء، نفعيًا في السلوك، ثم يتساءل لماذا الحياة لا تتغير ولماذا الألم يعود كل عام في وجه جديد. إننا نعيش — كأمة — ما يمكن تسميته بانفصام الوعي؛ ذلك المرض الصامت الذي لا يقتل الجسد لكنه يخرّب الروح، ولا يدمّر المؤسسات لكنه يمنع قيامها أصلًا.
العقل يقول إن الهوية لا يمكن أن تتشكل من ثلاث نسخ متعارضة، لأنّ «المبدأ الواحد لا يصدر عنه إلا واحد» كما يقول الفلاسفة، ولأنّ التناقض الداخلي يقتل الفاعلية ويخلق تشتتًا في الإرادة. حين يعيش الإنسان بشخصيتين يضطرب، فكيف بثلاث؟ كيف ينهض مجتمع يتغير خطاب الناس فيه بتغير المكان، فإذا جلس أمام الدولة صار مثالًا للالتزام، وإذا رجع إلى القبيلة صار ابنًا للعصبية، وإذا عاد إلى نفسه انغلق على ضعفٍ يهرب منه بالخطاب الديني الشفوي دون ممارسة، حتى أصبحت حياتنا—كما يقول علم النفس—سلسلة طويلة من التبرير الذكي بدل المواجهة الشجاعة للذات.
الواقع العملي يؤكد هذا. انظر إلى موطن القرار في الدولة: الرجل الذي يطالب بالإصلاح في الإعلام، هو نفسه الذي يبارك الظلم حين يخدم قبيلته. والمدافع عن العدل في المجالس، هو نفسه الذي يطلب الواسطة في كل شيء. والذي يصرخ ضد الفساد، هو نفسه الذي لا يتورع عن أخذ حقه بغير نظام. هذه ليست صفات أفراد، بل أعراض مجتمع يعيش في وعي مزدوج يحوّل القيم إلى شعارات، والشعارات إلى واجهة، والواجهة إلى جدار يفصل بيننا وبين حقيقة أنفسنا. لذلك ينهار كل مشروع إصلاحي بمجرد أن يبدأ، لأننا نريد تغيير الخارج دون أن نجرؤ على تغيير الداخل. وكأنّنا نعيد ما قاله مالك بن نبي: «مشكلتنا ليست في الأشياء، بل في أنفسنا التي لا تعرف كيف تتعامل مع الأشياء.»
ويأتي الوحي ليضع المرآة أمام هذا الاضطراب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}. هذه الآية التي نقرأها ثم نتجاوزها كأنها لا تعنينا، بينما هي تكشف الجرح الأكبر في العقل الموريتاني: أننا نظن الإيمان قولًا، والالتزام مظهرًا، والتقوى سلوكًا انتقائيًا. نحن نرفع شعار الدين في كل شيء، لكننا نضعه جانبًا حين يتعارض مع مصالحنا. نعظ الناس بالعدل ونحن نمارس الظلم في بيوتنا، ونطالب بالنزاهة ونحن نغض الطرف عن الرشوة لأنها «ضرورة»، ونستنكر العصبية ونحن نحتمي بها عند أول امتحان. حتى أصبح الخطاب الديني مجرد عزاء نفسي، نلوذ به لنشعر أننا الأفضل، لا لنصبح الأفضل.
والنبي ﷺ قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به»، لكننا جعلنا الدين تابعًا لأهوائنا. نطبّق منه ما يخدمنا، ونؤوّل ما يكشفنا، ونتجنب ما يفضح ازدواجنا. وهكذا يعيش الموريتاني بين ثلاث دوائر: دائرة الدين حين يخطب، ودائرة القبيلة حين يحتاج، ودائرة المصلحة حين يختلي بنفسه. هذا الانفصام لا يبني دولة ولا يحيي ضميرًا، بل يخلق شخصًا لا يعرف نفسه، يبتسم وهو محطم، يمدح وهو ساخط، ويخضع وهو يتظاهر بالعزة.
والألم الأكبر أنّ هذا الانقسام يخلق مجتمعًا عاجزًا عن النهضة. لأنّ النهضة تحتاج شخصية واحدة صادقة، لا ثلاث نسخ تتعارك في صدر واحد. تحتاج مواطنًا يؤمن أن العدل قيمة في المسجد وفي الإدارة وفي القبيلة، وأن الكرامة لا يمكن أن تُجزأ، وأن الله لا يقبل نصف نية ونصف ضمير ونصف التزام. يحتاج الموريتاني إلى أن يصحو من هذا السبات الطويل ليفهم أن التناقض ليس قدرًا، بل اختيارًا، وأن الإصلاح يبدأ حين تتحد الشخصية ويتوقف المرء عن لعب الأدوار. كما قال الجاحظ: «من أعجب العجب ادعاء المرء ما ليس فيه.» وما أكثر ما ندعيه نحن وما أقل ما نعيشه!
إنّ الكرامة لا تسكن في الخطابات، بل في قدرة الإنسان على أن يكون واحدًا في كل مكان. والجمال الحقيقي ليس في أن نظهر صالحين، بل أن نكون صادقين. والنهضة لا تبدأ من البرلمان ولا من الوزارات، بل من شجاعة الفرد حين يقف أمام نفسه ويقول: «لقد كذبتُ كثيرًا، ادعيتُ كثيرًا، وتصنعتُ كثيرًا… حان الوقت أن أكون أنا كما يريد الله، لا كما يريد الناس.»
إنّ انفصام الوعي الموريتاني ليس لعنة أبدية، بل جرح يمكن أن يلتئم إذا امتلكنا شجاعة الصدق، وإذا فهمنا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.
والتغيير هنا ليس شعارًا، بل ثورة داخلية، ثورة على الشخصية الزائفة، على الولاءات الضيقة، على الدين الذي استُعمل زينةً لا التزامًا، وعلى الواقع الذي يسحق أحلام الشباب ثم يطلب منهم الصمت.
حين يصبح الموريتاني واحدًا، لا ثلاثة، سيتغير كل شيء: ستستقيم الدولة، سيقوى القانون، ستولد الثقة، وستعود الروح إلى جسد هذا الوطن الذي تعب من حمل الأقنعة. أما ما دمنا نعيش في هذا الانشطار العميق، فإننا سنظل نكرر التاريخ ذاته: نرفع الصوت ولا نغير الفعل، نبكي على الوطن ولا نخدمه، نشكو الظلم ونحن صانعوه، ونطلب التقدم ونحن نحفر قبوره بأيدينا.
هذا المقال ليس جلدًا للذات، بل نداء كرامة: إننا نستحق أفضل من هذا العيش الممزق، ونستطيع أن نكون أمة واحدة بشخصية واحدة إذا صَدَقنا مع الله ومع أنفسنا. وكل إصلاح يبدأ من هنا… من الصدق الأول… من الإنسان الواحد… من الموريتاني الذي قرر أخيرًا أن يتوقف عن تمثيل ثلاث شخصيات، ويبدأ لعب دوره الحقيقي في الحياة.

.jpeg)
.jpeg)


.gif)
